سورة سبأ - تفسير تفسير الشوكاني

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (سبأ)


        


ثم ذكر سبحانه نوعاً آخر من أنواع كفرهم، فقال: {وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ ءاياتنا} أي: الآيات القرآنية حال كونها {بينات} واضحات الدلالات ظاهرات المعاني {قَالُواْ مَا هذا} يعنون: التالي لها، وهو النبي {إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُكُم} أي: أسلافكم من الأصنام التي كانوا يعبدونها {وَقَالُواْ} ثانياً {مَا هذا} يعنون: القرآن الكريم {إِلاَّ إِفْكٌ مُّفْتَرًى} أي: كذب مختلق {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ} ثالثاً {لِلْحَقّ لَمَّا جَاءهُمْ} أي: لأمر الدين الذي جاءهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم {إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} وهذا الإنكار منهم خاص بالتوحيد، وأما إنكار القرآن، والمعجزة، فكان متفقاً عليه بين أهل الكتاب، والمشركين. وقيل: أريد بالأوّل، وهو قولهم: {إِلاَّ إِفْكٌ مُّفْتَرًى} معناه، وبالثاني، وهو قولهم: {إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} نظمه المعجز. وقيل: إن طائفة منهم قالوا: إنه إفك، وطائفة قالوا: إنه سحر. وقيل: إنهم جميعاً قالوا: تارة إنه إفك، وتارة إنه سحر، والأوّل أولى.
{وَمَا ءاتيناهم مّنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا} أي: ما أنزلنا على العرب كتباً سماوية يدرسون فيها {وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مّن نَّذِيرٍ} يدعوهم إلى الحقّ، وينذرهم بالعذاب، فليس لتكذيبهم بالقرآن وبالرسول وجه، ولا شبهة يتشبثون بها. قال قتادة: ما أنزل الله على العرب كتاباً قبل القرآن، ولا بعث إليهم نبياً قبل محمد صلى الله عليه وسلم. قال الفرّاء، أي: من أين كذبوك، ولم يأتهم كتاب، ولا نذير بهذا الذي فعلوه. ثم خوّفهم سبحانه، وأخبر عن عاقبتهم، وعاقبة من كان قبلهم، فقال: {وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبلِهِمْ} من القرون الخالية {وَمَا بَلَغُواْ مِعْشَارَ مَا ءاتيناهم} أي: ما بلغ أهل مكة من مشركي قريش، وغيرهم من العرب عشر ما آتينا من قبلهم من القوّة، وكثرة المال، وطول العمر، فأهلكهم الله، كعاد، وثمود، وأمثالهم. والمعشار: هو: العشر. قال الجوهري: معشار الشيء عشره. وقيل المعشار: عشر العشر، والأوّل أولى. وقيل: إن المعنى: ما بلغ من قبلهم معشار ما آتينا هؤلاء من البينات والهدى. وقيل: ما بلغ من قبلهم معشار شكر ما أعطيناهم. وقيل: ما أعطى الله من قبلهم معشار ما أعطاهم من العلم، والبيان، والحجة، والبرهان، والأوّل أولى. وقيل: المعشار عشر العشير، والعشير عشر العشر، فيكون جزءاً من ألف جزء. قال الماوردي: وهو الأظهر؛ لأن المراد به المبالغة في التقليل، قلت: مراعاة المبالغة في التقليل لا يسوغ لأجلها الخروج عن المعنى العربي، وقوله: {فَكَذَّبُواْ رُسُلِى} عطف على {كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ} على طريقة التفسير، كقوله: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا}
[القمر: 9] الآية، والأولى أن: يكون من عطف الخاص على العام، لأن التكذيب الأول لما حذف منه المتعلق للتكذيب أفاد العموم، فمعناه: كذبوا الكتب المنزلة، والرسل المرسلة، والمعجزات الواضحة، وتكذيب الرسل أخص منه، وإن كان مستلزماً له، فقد روعيت الدلالة اللفظية لا الدلالة الالتزامية {فَكَيْفَ كَانَ} أي: فكيف كان إنكاري لهم بالعذاب، والعقوبة، فليحذر هؤلاء من مثل ذلك. قيل: وفي الكلام حذف. والتقدير: فأهلكناهم، فكيف كان نكير، والنكير اسم بمعنى: الإنكار.
ثم أمر سبحانه رسوله: أن يقيم عليهم حجة ينقطعون عندها، فقال: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بواحدة} أي: أحذركم، وأنذركم سوء عاقبة ما أنتم فيه، وأوصيكم بخصلة واحدة، وهي: {أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مثنى وفرادى} هذا تفسير للخصلة الواحدة، أو بدل منها، أي: هي قيامكم وتشميركم في طلب الحقّ بالفكرة الصادقة متفرقين اثنين اثنين، وواحداً واحداً، لأن الاجتماع يشوّش الفكر. وليس المراد القيام على الرجلين، بل المراد القيام بطلب الحقّ، وإصداق الفكر فيه، كما يقال: قام فلان بأمر كذا {ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ} في أمر النبيّ، وما جاء به من الكتاب، فإنكم عند ذلك تعلمون أن {مَا بصاحبكم مّن جِنَّةٍ}، وذلك؛ لأنهم كانوا يقولون: إن محمداً مجنون، فقال الله سبحانه: قل لهم: اعتبروا أمري بواحدة، وهي: أن تقوموا لله، وفي ذاته مجتمعين، فيقول الرجل لصاحبه: هلمّ، فلنتصادق، هل رأينا بهذا الرجل من جنة، أي: جنون، أو جرّبنا عليه كذباً، ثم ينفرد كل واحد عن صاحبه، فيتفكر، وينظر، فإن في ذلك ما يدل على أن محمداً صلى الله عليه وسلم صادق، وأنه رسول من عند الله، وأنه ليس بكاذب، ولا ساحر، ولا مجنون، وهو معنى قوله: {إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَّكُمْ بَيْنَ يَدَىْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} أي: ما هو إلاّ نذير لكم بين يدي الساعة. وقيل: إن جملة {مَا بصاحبكم مّن جِنَّةٍ} مستأنفة من جهة الله سبحانه مسوقة للتنبيه على طريقة النظر والتأمل بأن هذا الأمر العظيم، والدعوى الكبيرة لا يعّرض نفسه له إلاّ مجنون لا يبالي بما يقال فيه، وما ينسب إليه من الكذب، وقد علموا: أنه أرجح الناس عقلاً، فوجب: أن يصدّقوه في دعواه، لا سيما مع انضمام المعجزة الواضحة، وإجماعهم على أنه لم يكن ممن يفتري الكذب، ولا قد جرّبوا عليه كذباً مدّة عمره، وعمرهم. وقيل: يجوز أن تكون {ما} في {مَا بصاحبكم} استفهامية، أي: ثم تتفكروا أيّ شيء به من آثار الجنون. وقيل: المراد بقوله: {إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بواحدة} هي: لا إله إلاّ الله كذا قال مجاهد، والسدّي. وقيل: القرآن؛ لأنه يجمع المواعظ كلها، والأولى ما ذكرناه أوّلاً.
وقال الزجاج: إن {أن} في قوله: {أَن تَقُومُواْ} في موضع نصب بمعنى: لأن تقوموا.
وقال السدّي: معنى مثنى وفرادى: منفرداً برأيه، ومشاوراً لغيره.
وقال القتيبي: مناظراً مع عشيرته، ومفكراً في نفسه. وقيل: المثنى عمل النهار، والفرادى عمل الليل، قاله الماوردي. وما أبرد هذا القول، وأقلّ جدواه. واختار أبو حاتم، وابن الأنباري الوقف على قوله: {ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ}، وعلى هذا تكون جملة: {مَا بصاحبكم مّن جِنَّةٍ} مستأنفة كما قدّمنا. وقيل: ليس بوقف، لأن المعنى: ثم تتفكروا هل جربتم عليه كذباً، أو رأيتم منه جنة، أو في أحواله من فساد.
ثم أمر سبحانه أن يخبرهم: أنه لم يكن له غرض في الدنيا، ولا رغبة فيها حتى تنقطع عندهم الشكوك، ويرتفع الريب، فقال: {قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مّن أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ} أي: ما طلبت منكم من جعل تجعلونه لي مقابل الرسالة، فهو لكم إن سألتكموه، والمراد نفي السؤال بالكلية، كما يقول القائل: ما أملكه في هذا، فقد وهبته لك، يريد أنه لا ملك له فيه أصلاً، ومثل هذه الآية قوله: {قُل لاَّ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ المودة فِى القربى} [الشورى: 23]، وقوله: {مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَن شَاء أَن يَتَّخِذَ إلى رَبّهِ سَبِيلاً} [الفرقان: 57]. ثم بين لهم: أن أجره عند الله سبحانه، فقال: {إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى الله} أي: ما أجري إلاّ على الله لا على غيره {وَهُوَ على كُلّ شَئ شَهِيدٍ} أي: مطلع لا يغيب عنه منه شيء. {قُلْ إِنَّ رَبّى يَقْذِفُ بالحق} القذف الرمي بالسهم، والحصى، والكلام. قال الكلبي: يرمي على معنى: يأتي به، وقال مقاتل: يتكلم بالحق، وهو: القرآن، والوحي، أي: يلقيه إلى أنبيائه.
وقال قتادة {بالحق} أي: بالوحي، والمعنى: أنه يبين الحجة، ويظهرها للناس على ألسن رسله، وقيل: يرمي الباطل بالحق، فيدمغه {علام الغيوب} قرأ الجمهور برفع: {علام} على أنه خبر ثانٍ لإنّ، أو خبر مبتدأ محذوف، أو بدل من الضمير في يقذف، أو معطوف على محل اسم إن. قال الزجاج: الرفع من وجهين على الموضع، لأن الموضع موضع رفع، أو على البدل. وقرأ زيد بن علي، وعيسى بن عمر، وابن أبي إسحاق بالنصب نعتاً لاسم إنّ، أو بدلاً منه، أو على المدح. قال الفراء: والرفع في مثل هذا أكثر كقوله: {إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النار} [ص: 64]، وقرئ الغيوب بالحركات الثلاث في الغين، وهو: جمع غيب، والغيب هو: الأمر الذي غاب وخفي جدًّا.
{قُلْ جَاء الحق} أي: الإسلام، والتوحيد.
وقال قتادة: القرآن.
وقال النحاس: التقدير صاحب الحقّ، أي: الكتاب الذي فيه البراهين، والحجج.
وأقول: لا وجه لتقدير المضاف، فإن القرآن قد جاء كما جاء صاحبه. {وَمَا يُبْدِئ الباطل وَمَا يُعِيدُ} أي: ذهب الباطل ذهاباً لم يبق منه إقبال، ولا إدبار، ولا إبداء، ولا إعادة. قال قتادة: الباطل هو: الشيطان، أي: ما يخلق لشيطان ابتداء، ولا يبعث، وبه قال مقاتل، والكلبي.
وقيل: يجوز أن تكون ما استفهامية، أي: أيّ شيء يبديه، وأيّ شيء يعيده؟ والأوّل أولى. {قُلْ إِن ضَلَلْتُ} عن الطريق الحقة الواضحة {فَإِنَّمَا أَضِلُّ على نَفْسِى} أي: إثم ضلالتي يكون على نفسي، وذلك أن الكفار قالوا له: تركت دين آبائك، فضللت، فأمره الله: أن يقول لهم هذا القول: {وَإِنِ اهتديت فِيمَا يُوحِى إِلَىَّ رَبّى} من الحكمة، والموعظة، والبيان بالقرآن {إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ} مني ومنكم يعلم الهدى والضلالة. قرأ الجمهور: {ضللت} بفتح اللام، وقرأ الحسن، ويحيى بن وثاب بكسر اللام، وهي لغة أهل العالية.
وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس {وَمَا بَلَغُواْ مِعْشَارَ مَا ءاتيناهم} يقول: من القوّة في الدنيا.
وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج نحوه.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عن محمد بن كعب القرظي في الآية قال: يقوم الرجل مع الرجل، أو وحده، فيفكر ما بصاحبه من جنة.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة {مَا بصاحبكم مّن جِنَّةٍ} يقول: إنه ليس بمجنون.
وأخرج هؤلاء عنه أيضاً في قوله: {مَا سَأَلْتُكُم مّن أَجْرٍ} أي: من جعل، فهو لكم، يقول: لم أسألكم على الإسلام جعلاً، وفي قوله: {قُلْ إِنَّ رَبّى يَقْذِفُ بالحق} قال: بالوحي، وفي قوله: {وَمَا يُبْدِئ الباطل وَمَا يُعِيدُ} قال: الشيطان لا يبدئ ولا يعيد إذا هلك.
وأخرج هؤلاء أيضاً عنه في قوله: {وَمَا يُبْدِئ الباطل وَمَا يُعِيدُ} قال: ما يخلق إبليس شيئاً، ولا يبعثه.
وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر عن عمر بن سعد في قوله: {إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ على نَفْسِى} قال: إنما أوخذ بجنايتي.


ثم ذكر سبحانه حالاً من أحوال الكفار، فقال: {وَلَوْ ترى إِذْ فَزِعُواْ}، والخطاب لرسول الله، أو لكل من يصلح له قيل: المراد فزعهم عند نزول الموت بهم.
وقال الحسن: هو: فزعهم في القبور من الصيحة، وقال قتادة: هو: فزعهم إذا خرجوا من قبورهم.
وقال السدّي: هو: فزعهم يوم بدر حين ضربت أعناقهم بسيوف الملائكة، فلم يستطيعوا فراراً ولا رجوعاً إلى التوبة.
وقال ابن مغفل: هو: فزعهم إذا عاينوا عقاب الله يوم القيامة.
وقال سعيد بن جبير: هو: الخسف الذي يخسف بهم في البيداء، فيبقى رجل منهم، فيخبر الناس بما لقي أصحابه، فيفزعون. وجواب لو محذوف، أي: لرأيت أمراً هائلاً، ومعنى {فَلاَ فَوْتَ}: فلا يفوتني أحد منهم، ولا ينجو منهم ناجٍ. قال مجاهد: فلا مهرب {وَأُخِذُواْ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ} من ظهر الأرض، أو من القبور، أو من موقف الحساب. وقيل: من حيث كانوا، فهم من الله قريب لا يبعدون عنه، ولا يفوتونه. قيل: ويجوز أن يكون هذا الفزع هو الفزع الذي بمعنى: الإجابة، يقال: فزع الرجل: إذا أجاب الصارخ الذي يستغيث به كفزعهم إلى الحرب يوم بدر.
{وَقَالُواْ ءامَنَّا بِهِ} أي: بمحمد، قاله قتادة، أو بالقرآن.
وقال مجاهد: بالله عزّوجلّ.
وقال الحسن: بالبعث {وأنى لَهُمُ التناوش} التناوش التناول، وهو تفاعل من التناوش الذي هو: التناول، والمعنى: كيف لهم أن يتناولوا الإيمان من بعد، يعني: في الآخرة، وقد تركوه في الدنيا، وهو معنى {مِن مَّكَانِ بَعِيدٍ}: وهو تمثيل لحالهم في طلب الخلاص بعد ما فات عنهم. قال ابن السكيت: يقال: للرجل إذا تناول رجلاً ليأخذ برأسه، أو بلحيته ناشه ينوشه نوشاً، وأنشد:
فهي تنوش الحوض نوشاً من علا *** نوشاً به تقطع أحواز الفلا
أي: تناول ماء الحوض من فوق، ومنه المناوشة في القتال، وقيل: التناوش الرجعة، أي: وأنى لهم الرجعة إلى الدنيا؛ ليؤمنوا، ومنه قول الشاعر:
تمنى أن تئوب إليّ مي *** وليس إلى تناوشها سبيل
وجملة: {وَقَدْ كَفَرُواْ بِهِ مِن قَبْلُ} في محل نصب على الحال، أي: والحال أن قد كفروا بما آمنوا به الآن من قبل هذا الوقت، وذلك حال كونهم في الدنيا. قرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي، والأعمش: {التناؤش} بالهمز، وقرأ الباقون بالواو، واستبعد أبو عبيد، والنحاس القراءة الأولى، ولا وجه للاستبعاد، فقد ثبت ذلك في لغة العرب، وأشعارها، ومنه قول الشاعر:
قعدت زماناً عن طلابك للعلا *** وجئت نئيشاً بعد ما فاتك الخير
أي: وجئت أخيراً. قال الفراء: الهمز، وترك الهمز متقارب {وَيَقْذِفُونَ بالغيب} أي: يرمون بالظنّ، فيقولون: لا بعث، ولا نشور، ولا جنة، ولا نار {مِن مَّكَانِ بَعِيدٍ} أي: من جهة بعيدة ليس فيها مستند لظنهم الباطل.
وقيل: المعنى: يقولون في القرآن أقوال باطلة: إنه سحر، وشعر، وأساطير الأوّلين. وقيل: يقولون في محمد إنه ساحر شاعر كاهن مجنون. وقرأ أبو حيوة، ومجاهد، ومحبوب عن أبي عمرو: {يقذفون} مبنياً للمفعول، أي: يرجمون بما يسوؤهم من جراء أعمالهم من حيث لا يحتسبون، وفيه تمثيل لحالهم بحال من يرمي شيئاً لا يراه من مكان بعيد لا مجال للوهم في لحوقه، والجملة إما معطوفة على: {وقد كفروا به} على أنها حكاية للحال الماضية، واستحضار لصورتها، أو مستأنفة لبيان تمثيل حالهم. {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} من النجاة من العذاب، ومنعوا من ذلك وقيل: حيل بينهم، وبين ما يشتهون في الدنيا من أموالهم، وأهليهم، أو حيل بينهم، وبين ما يشتهونه من الرجوع إلى الدنيا {كَمَا فُعِلَ بأشياعهم مّن قَبْلُ} أي: بأمثالهم، ونظرائهم من كفار الأمم الماضية، والأشياع جمع شيع، وشيع جمع شيعة، وجملة: {إِنَّهُمْ كَانُواْ فِى شَكّ مُّرِيبِ} تعليل لما قبلها، أي: في شك موقع في الريبة، أو ذي ريبة من أمر الرسل، والبعث، والجنة، والنار، أو في التوحيد، وما جاءتهم به الرسل من الدين، يقال: أراب الرجل إذا صار ذا ريبة، فهو مريب، وقيل: هو من الريب الذي هو الشك، فهو كما يقال عجب عجيب، وشعر شاعر.
وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر عن ابن عباس في قوله: {فَلاَ فَوْتَ} قال: فلا نجاة.
وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله: {وَلَوْ ترى إِذْ فَزِعُواْ فَلاَ فَوْتَ وَأُخِذُواْ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ} قال: هو جيش السفياني قيل: من أين أخذوا؟ قال: من تحت أقدامهم.
وقد ثبت في الصحيح: أنه يخسف بجيش في البيداء من حديث حفصة، وعائشة، وخارج الصحيح من حديث أمّ سلمة، وصفية، وأبي هريرة، وابن مسعود، وليس في شيء منها أن ذلك سبب نزول هذه الآية، ولكنه أخرج ابن جرير من حديث حذيفة بن اليمان قصة الخسف هذه مرفوعة، وقال في آخرها: فذلك قوله عزّ وجلّ في سورة سبأ: {وَلَوْ ترى إِذْ فَزِعُواْ فَلاَ فَوْتَ} الآية.
وأخرج الفريابي، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه عن ابن عباس في قوله: {وأنى لَهُمُ التناوش} قال: كيف لهم الردّ؟ {مِن مَّكَانِ بَعِيدٍ} قال: يسألون الردّ، وليس بحين ردّ.
وأخرج ابن المنذر عن التيمي قال: أتيت ابن عباس قلت: ما التناوش؟ قال: تناول الشيء، وليس بحين ذاك.

1 | 2 | 3